١٤٢٩/١١/١٣

تريئ ألمتار

تريئ ألمتار

الدكتور/ وائل عزيز

عقل ونقل ومسقبل



ليس هناك خطأ مطبعي في العنوان، ولن أدعك مع ظنونك لوقت طويل، فكل من قابلتهم فشلوا في حل اللغز والحصول على الجائزة. "تريئ ألمتار" هو "طريق المطار".. وقد رأيتها مكتوبة هكذا في إعلان مطبوع عن مطعم لبناني في دبي.

و من المؤكد أن المسألة أكبر من دبي ومن لبنان ومن الطعام... وفي كل بلد عربي أمثلة مشابهة وربما أكثر إيلاماً.. المسألة أن لغتنا التي كانت هويتنا أصبحت عارنا. بمعنى أننا نخجل منها ونهرب ونتوارى وكأنه صار عيباً وإنقاصاُ من قيمتنا أن نتحدث بالعربية، وبمعنى أنها في المقابل تخجل من استخدامنا المشوه لها، الذي يسيء إليها ويحط من قدرها.

أجروا إحصاءاً مؤخراً فوجدوا أن اللغة العربية هي اللغة الرابعة من حيث الانتشار في دبي. الأولى: الأردية، والثانية: الإنجليزية، والثالثة: لغة "فيه معلوم" (وهي خليط من العربية والأردية والإنجليزية والروسية ابتكره المقيمون في دبي للتواصل في المحلات وسيارات الأجرة)، والرابعة: اللغة العربية.

وحسناً فعلت حكومة دبي حين أصدرت قبل عدة أشهر قراراً بجعل جميع المخاطبات الرسمية باللغة العربية... ولك أن تتخيل أنني وأنا موظف في حكومة دبي أكتب وأتلقى أكثر من 80% من مراسلاتي الداخلية والخارجية باللغة الإنجليزية، دون أن أدعي أنا أو من أخاطبهم أننا أصبحنا في الإنجليزية أفضل، ولكنها عادة استمرت على طريقة: "فلا لغتنا تبقى ولا ما نرقع".

.........

وفي معظم الدول العربية، يندر أن تجد إعلاناً عن وظيفة محترمة مكتوباً باللغة العربية، بل وتجد دائماً هذه الجملة المستفزة عن مؤهلات المتقدم للوظيفة (وأنا أترجمها لأنها تنشر في العادة بالإنجليزية): "يجيد الإنجليزية تحدثاُ وكتابة,, ويعتبر التحدث بالعربية ميزة إضافية"... إضافية يا....!!

و مؤخراً وحتى لا تقع الشركات في مشكلة قانونية بسبب التميز بين المرشحين للوظائف، لا تقول الوظيفة: الإعلان خاص بالأجانب فقط، وإنما تشترط: التخرج من جامعة غربية. وقد وجدت إعلاناً في جريدة مصرية يطلب صيدلياً للعمل، ولم يشترط تقديراً معيناً للتخرج من كلية الصيدلة، وإنما اشترط أن يكون الصيدلي حاصلاً على ثانوية إنجليزية.. وقد اطلعت على نتيجة اختبار أجراه مهندس مصري كان يشغل وظيفة مرموقة في احد الدوائر الحكومية بالخليج العربي، ثم أجروا اختبارات لجميع الموظفين لإعادة التقييم، فحصل في اللغة الإنجليزية على مستوى مبتديء، وهو مستوى يعادل مستوى طالب في الصف الثاني الابتدائي. والمعنى أننا خسرنا العربية بحجة أن سوق العمل لا يحتاجها، ولم نكسب الإنجليزية لأننا لم نتعلمها بطريقة صحيحة، ولأنها ليست لغتنا الأم.

.......

قبل أكثر من عشر سنوات كتبت بحثاً مطولاً عن "صناعة البرمجيات العربية"، لعلي أنشر منه هنا فقرات فيما بعد عن مشكلة تعريب العلوم، وخلصت فيه إلى أن المشكلة ليست في اللغة وإنما في المتلاغين... ولا يمر يوم حتى يتأكد لي هذا المعنى..

قبل عدة أيام وقع بين يدي مقالة عن مستشرق أوروبي اسمه دي هامر جمع كل ما قاله العرب عن الجمل وشئونه، فجاء في 5644 لفظاً... فإذا عجلت الناقة للورد (مكان الماء) فهي "الميراد"، وإذا توجهت إلى الماء فهي "القارب"، وإذا كانت في أول الصف فهي "السلوف"، وإذا كانت في وسطه فهي "الدفون".. وسألت نفسي: لو جمع دي هامر أو عبد الفتاح ما قاله العرب المعاصرون عن الطائرة وشئونها فكم ستكون الحصيلة. راجع ما تقوله موظفات الخدمة الأرضية في المطارات عن إقلاع وهبوط الطائرات، لتعرف حجم عجزنا عن التعبير؟!!

وقد جمع الفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط عدداً من مترادفات الأسماء العربية في كتاب طريف أسماه: "الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف".. وذكر فيه خمسمائة اسم للأسد ومائتي اسم للحية وثمانين اسماً للعسل.

والمسألة ليست مجرد جمع ترادفات مكررة معظمها مما هجره العرب في الاستخدام، وإنما هناك فروق لغوية دقيقة لا يعرفها إلا أهل اللغة والذوق. فمثلاُ: "قعد" غير "جلس"، والأفضل أن تستخدم قعد بعد قيام فتقول كان قائماً فقعد، وأن تستخدم جلس بعد اضطجاع فتقول: كان مضطجعاً فجلس. ولولا أن أشق عليكم لحدثتكم عن الفرق بين القلب واللب والفؤاد، وبين راح ومضى وذهب وانطلق، والفرق بين: الوجل والخوف والخشية والرهبة والخشوع والحذر، وكيف أن لكل منها مقاماً في علاقتنا بالله تعالى.

واللفظ العربي – بخلاف الألفاظ في اللغات الأخرى- معجز وهو يعبر بحروفه وطريقة نطقه عن أدق التفاصيل بما فيها المشاعر الإنسانية بما يجعلك متوحداً مع الكون في تناغم فريد... فصوت الإنسان الخفيض أو الخفي قد يكون همساً أو جرساً أو خشفة أو همشة أو وقشة. ولكل منها استخدامه في موضعه الخاص... ومن أجمل ما قرأت عن صوت الماء: أنه إذا جرى فهو خرير، وإذا كان تحت ورق أو قماش فهو قسيب، وإذا دخل في مضيق فهو فقيق، وإذا تردد في الجرة أو الكوز فهو بقبقة، وإذا استخرج شراباً من الآنية فهو قرقرة.

......

وفي مقابل ذلك فإن الترخص والابتذال الذي نجده في اللغة الإنجليزية المعاصرة يكاد يعود بها لتصبح مجرد قعقعة صوتية خالية من المعنى الدلالي كما كانت عليه اللغات في بداية نشأتها، ولعل ذلك يعود إلى أن سرعة إنتاج المصانع للمخترعات الحديثة أسرع بكثير من سرعة المتلاغين عن إيجاد الكلمة المناسبة للتعبير عن المنتج، فلم يتوقفوا أمام ذلك طويلاً. وفي مجال الحاسوب فإن القائمة تطول إذا رغبنا في حصر أمثلة هذا الترخص والابتذال بداية من OKالتي لا تزال تمثل مشكلة لدى المعربين لبرمجيات، وحتى ويندوز وجوجول وياهو ودوت كوم ... الخ.

وقد امتد هذا الترخص إلى لغتنا العربية، حتى في مجال الطعام... فعجز أصحاب المطاعم عن وضع أسماء مناسبة لما يقدمونه من تقاليع الطعام والشراب. فقد اطلعت على قائمة المأكولات في هذا المطعم الواقع على "تريء ألمتار"، ثم طلبت من النادلة (الجرسونة يعني) حسب القائمة أمامي: سندونش "فياجرا"، وعصير: "كان زمان".

هناك ١٩ تعليقًا:

أمل حمدي يقول...

هههههههههههههههه

بجد شر البلية ما يضحك

موضوع جميل جدا

جزاك الله خيرا

تفتكر في امل

احنا ها نعمل اللي يقدرنا عليه ربنا

والله المستعان

سوف اؤجل الموضوع الذي كنت سأكتبه

حتى يأخذ هذا الموضوع حقه في القراءة

وجزاك الله كل الخير

ميرا ( وومن ) يقول...

كل ده في اللغه العربية

احنا فايتنا كتير قوي

بس كلام حضرتك ساعات بيؤخذ علي اللغه في ان كثره مترادفتها بتفقد معاني كثيرة وناس كتير بيتعللوا ان الإنجليزيه ادق

تحياتي علي المجهود الرائع

غير معرف يقول...

رااااا ئع واكثر من ررراااائع

مع ملاحظة أن تكرار حرف الألف أو الراء هو من ابتكارات مراهقى الإنترنت ولا أعلم - او لا أعرف - إن كان ذلك " التمدد العصرى " من مميزات لغتنا الماضية فى طريق الانقراض - كما ذكر تقرير اليونيسكو - ام العكس!

ادراجك هذا يعبر بصدق عن ذلك الغليان الذى يشوى صدرى كلما طالعت اختراعات هؤلاء الكارهين للغتنا المتفننيين فى الالتفات على مفاتنها الأزلية.. سواء من الكارهين فى بلاد الشام ولبنان على وجه الخصوص او المتفرنسين فى بلاد المغرب.!
صديقى الررررااااائع .. لا تقلق.. فقط اغضب.. فللعربية رب يحفظها لأنها لغة كتابه العظيم المقدس .. القرآن الكريم

هبة النيــل يقول...

موضوع منتهى الروعة فعلا

ومعك كل الحق يا دكتور في

والمعنى أننا خسرنا العربية بحجة أن سوق العمل لا يحتاجها، ولم نكسب الإنجليزية لأننا لم نتعلمها بطريقة صحيحة، ولأنها ليست لغتنا الأم.


نعم نحن كذلك

كما فقدنا أشياء كثيرة

من باب "من فات قديمه ...تاه"

وتاه هنا أي لا منه وصل للنهاية ولا منه استطاع أن يرجع لنقطة البداية

ونحن الآن فعلا كذلك

طرح عبقري الفكرة والتناول يا فندم

جزاك الله الخير كله

فشكووول يقول...

هل عندك سعة صدر لتأخذ وجهة النظر الاخرى ؟؟
فطالما نحن فى الدرك الاسفل من الشعوب فكلنا وما لنا عار .. وطبعا لغتنا هى مما لنا ويجب ان تعترف ونقر بالحقيقه حتى نستطيع ان نشخص المرض وعلاجه .. كل شيئ عندنا مستورد اصبحنا مستهلكين للحضاره مستهلكين للمدنيه لا صانعين لها والصانعين للمدنيه تسود لغتهم والحضاره الان بلغات كثيره غير العربيه فنحن لا نفعل فى الطب شيئا ونستورد النظريات الطبيه ونعمل بها والهندسه ليس لنا فيها اى باع وقيس على ذلك كل شيئ
ولا خلاف على ان اللفظ العربى معجز ولكن فى هذا العصر الذى نستهلك فيه المدنيه .. هذا العصر الذى نعيش فيه الحضاره ولسنا منها ولا نصنع منها شيئا كلنا وما لنا وما نحن عليه سيهون على انفسنا اولا وعلى العالم الآخر ثانيا وربما نحن فى زمن غثاء السيل او فى زمن القصعة التى يتكالب عليها أكلتها .. تحياتى

ن يقول...

السلام عليكم ورحمة من الله وبركاته
سيدتى
أعتبره مقال رائع وعرض موفق جداً يحتاج إستيعاب وسرعة العمل به وبحكم مهنتك سيدتى فأنت نموذجاً مشرفاً لمخاطبة شباب اليوم فهم فى حاجة ماسة لأسلوبك المعالج فى موضوعات كثيرة إطلعت عليها من خلال مدونتك المحترمة .
هل أقول لك أمنية فكرت فيها .. هو عمل قاموس خاص بلغتنا العربية تابع للنت يعمل على ترجمة الكلمات العربية المختلطة الى كلمات عربية صحيحة حتى نتعود أن نتعامل من جديد مع اللغة وأصولها لكى لا يقع الشباب والاجيال القادمة فى مشكلة التعامل مع كتب اللغة العربية السليمة .. الان نلتقى عبر الانترنت لمواقع ترجمة بجميع اللغات الى اللغة العربية المبسطة والتى توافق متحدثي جميع الدول العربية وهى ترجمة تتم باللغة العربية المبسطة جداً والتى أصبحنا نتعامل بها حالياً مرغمين لكى نستطيع التعامل مع الثقافة الجنونية التى تكتسح الاصول فى كل شىء.. شكراً لك على هذه المعلومات القيمة والتى إتخذتها مراجع مهمة للأستعانة بها .
توجيه هادف يستحق التقدير
مع خالص تحياتى
أمل فتحى عزت

حاجــ عيال ــات يقول...

اللغة العربية هي مايرتاح عندها عقلي تهدأ لها أذناي
أهنأك على فكرة مدونتك
أما عن الفياجرا فأنا بموووت فيها

Mahdi Mahdi يقول...

اناجديد ومن يؤمن بهدفى فليساعدنى على الانتشاربين الاصدقاء فى المدونات

رابطة هويتي اسلامية يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نتشرف أن ندعوكم إلي زيارة رابطتنا " هويتي إسلامية ".

رابطتنا جسر من التواصل بين المدونين أصحاب الفكرة

رابطتنا رفض لما يبعدنا عن هويتنا الإسلامية

نحن أصحاب الفكرة انتم أصحاب الانجاز

كونوا معنا للرقي و النهوض

الدعوة خاصة ليست عامة لنا شروط فيمن ندعوهم أنت واحدا منهم

حسن مدني يقول...

ماما أمولة

أكيد هناك أمل، مادامت الحياة..
والله المستعان

في انتظار موضوعك

تحياتي

حسن مدني يقول...

وومن

إن البعض يظن أن الانجليزية أدق لأنه لا يحسن العربية. وإلا فكيف تكون لغة عدد ألفاظها نحو 250 ألف لفظ، أدق من لغة تحوي بين2 مليون لفظ، و 2 مليون ونصف المليون لفظ.
لا يجوز علميا..

أما من يأخذ على اللغة العربية كثرة مفرداتها، فهذا يصح فيه القول العامي، مالقاش في الورد عيب. إن كثرة المفردات، على أن بينها فروق دقيقة في المعنى، من أجل مزيد من الدقة، فهي تعطي فرصة أكبر لمحسنات البديعية، والجرس الموسيقي، وجماليات اللغة. وهي من علامات قوة اللغة وليس ضعفها.

تحياتي

حسن مدني يقول...

أخي إيهاب

إن كارهي اللغة العربية كثير للأسف. ومحبيها، بصدق قليلون،
والله يحفظ اللغة بأهلها، كما يحفظ الدين بأتباعه.

تحياتي

حسن مدني يقول...

هبة النيل،

تم نقل تعليقك للدكتور..
في مدونته..

وهو إطراء في محله لأستاذنا الدكتور وائل عزيز

تحياتي

حسن مدني يقول...

أستاذ فشكول

لا أراها وجهة نظر مخالفة، بقدر ما هي نظرة من الجهة الأخرى، واتفاق في النتيجة.

نحن مستهلكون للحضارة والعلم. ولا بأس من استيراد العلم، والمدنية. الخطر كل الخطر في استيراد الثقافة، القيم، الفكر.
وهؤلاء كلهم نتاج اللغة. وهم قوام الهوية
ودفاعنا عن لغتنا، هو دفاع عن هويتنا.

وأجل، نحن في زمن تداعي الأكلة إلى قصعتها. ويجب علينا أن نتكاتف لرد الأكلة، ودفع الأعادي.

تحياتي

حسن مدني يقول...

الأخت أمل،

أحسب تعليقك موجه إلى ماما أمولة، أكثر مني أو من الدكتور وائل.
ولكن،
لست متأكدا من فهم طلبك أو اقتراحك، هل تقصدين الكلمات العامية؟ أم الكلمات الأجنبية المعربة؟ أم شيء آخر؟

كلا الفكرتان تستحق الاهتمام والعمل عليها..

تحياتي

حسن مدني يقول...

حاجات عيال
شكرا لك..

تحياتي

حسن مدني يقول...

مهدي مهدي

حاضر، ننظر ونرى

تحياتي

حسن مدني يقول...

رابطة هويتي إسلامية

شكرا على الدعوة، ونحن على طريق واحد بإذن الله. فإن العربية هي اللغة الرسمية للإسلام، كما أن الإسلام هو الدين الرسمي للعربية.

تصحيح،
الصواب "أنت واحدٌ منهم"

تحياتي

مصطفى محمود يقول...

أعلم أن الواقع مرير

ولكن ما المخرج

وكيف نحل أزمة اللهجات العامية والتي نتحدث بها ليل نهار ؟

الحل لن يكون بين ليلة وضحاها.

عموما كل ما أريد أن أقوله أننا مقصرون
وأنا اولهم

بارك الله فيكم على نقلكم الجميل :)

جزيت خيرا